“أَزْرْكَْ”.. حجرٌ يدور على محور التاريخ وحكايات سوس الخالدة

من بين الأدوات التقليدية التي ترتبط بالثقافة الأمازيغية في منطقة سوس، تحتل “أَزْرْكَْ” أو “الرحى” مكانة خاصة، هذه الأداة البسيطة، التي تتألف من حجرين دائريين لطحن الحبوب، ليست مجرد أداة منزلية، بل هي شاهد على تاريخ طويل من العمل الشاق والاعتماد على الذات في المجتمعات السوسية.
وتسمى الرحى في المغرب بأسماء متعددة تختلف باختلاف المناطق والتنويعات اللهجية مثل “أَزْرْكَْ”، و”تاسِيرتْ”، و”تاقْرْقورْتْ”، و”تاقْرْوِيت”..
يعود تاريخ “أَزْرْكَْ” إلى العصور القديمة، حيث يُعتقد أنها ظهرت لأول مرة في المجتمعات الزراعية الأولى في شمال إفريقيا. في سوس، لعبت الرحى دورًا مهمًا في حياة الأسر الأمازيغية، خاصة في المناطق القروية التي تعتمد على زراعة الشعير والقمح والذرة.
كانت “أَزْرْكَْ” تُصنع يدويًا من حجر صلب، يتم اختياره بعناية لضمان تحمله للاستخدام الطويل. وكان لكل أسرة تقريبًا أزرك خاص بها، يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية.
تتكون “أَزْرْكَْ” من عدة أجزاء رئيسية تتعاون معًا لطحن الحبوب بشكل فعال. في منطقة سوس الأقصى، حيث تُستخدم اللهجة الأمازيغية “تشلحيت”، تحمل مكونات الرحى أسماءً خاصة ومعروفة بين السكان المحليين:
• العصى الثابتة في الجزء العلوي: تعرف في اللغة الأمازيغية بـ “تاسكتيت” (ⵜⴰⵙⴽⵜⵉⵜ) أو “أسكتي” (ⴰⵙⴽⵜⵉ)، وهي العصى التي تحمل الجزء العلوي من الرحى.
• عصى المحور: تسمى “تامنروت” (ⵜⴰⵎⵏⵕⵓⵜ) بتفخيم الراء، وهي العصى التي تدير الجزء العلوي من الرحى وتربط بين الجزئين.
• الجزء العلوي الذي يدور من الرحى: يُطلق عليه اسم “تامغوغت” (ⵜⴰⵎⵖⵓⵖⵜ)، وهو الجزء المتحرك من الرحى الذي يقوم بطحن الحبوب.
• الجزء السفلي الثابت: يُعرف بـ “أزرك” (ⴰⵣⵔⴳ)، وهو الجزء الثابت من الرحى الذي يتم وضع الحبوب عليه أثناء عملية الطحن.
هذه المصطلحات الأمازيغية تخص المكونات الأساسية ل “أَزْرْكَْ”وتُظهر الرابط العميق بين هذه الأداة والتراث الثقافي للأمازيغ في سوس.
مع مرور الوقت، بدأت وظيفة أَزْرْكَْ تتغير، فبينما كانت تُستخدم في الماضي لطحن الحبوب بشكل يومي، أصبحت اليوم رمزًا تراثيًا يُستخدم في المناسبات التقليدية أو يُعرض في المتاحف والفضاءات الثقافية، كما أن بعض النساء المسنّات في القرى السوسية ما زلن يستخدمن الرحى لصناعة الطحين التقليدي، الذي يُعتبر أكثر نكهة وجودة مقارنة بالطحين المصنّع.
وفي العقود الأخيرة، ومع انتشار الآلات الحديثة، تراجع استخدام أزرك الرحى بشكل ملحوظ، إلا أن محاولات عديدة بُذلت للحفاظ عليها كجزء من التراث الأمازيغي، حيث تُقدّم ورش لصناعة أزرك في الأسواق التقليدية وتُستخدم كتحف منزلية.
“أَزْرْكَْ” كانت تسهم بشكل كبير في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سوس، حيث كانت الرحى تمثل وسيلة أساسية للحصول على الطحين في المناطق التي لا تتوفر فيها مطاحن حديثة، كما كانت تمثل جزءًا من النشاط التجاري في بعض الأسواق التقليدية حيث يتم بيع الحبوب المطحونة يدويًا.
وفي المجتمع الأمازيغي التقليدي، كانت “أَزْرْكَْ” تمثل أيضًا جزءًا من العلاقات الاجتماعية. كانت النساء يجتمعن معًا في المساء لاستخدام الرحى، ما كان يشجع على التفاعل الاجتماعي وتبادل الحكايات والأغاني الشعبية.
تنسج حول “أَزْرْكَْ” بسوس قصصٌ شعبية تجمع بين الحنين والأصالة، لاسيما في الحكايات الأمازيغية القديمة، حيث كانت الرحى رمزًا للكدّ والصبر.
وترتبط هذه الألة بمجموعة من المعتقدات الميثولوجية
اليوم، يُعد أَزْرْكَْ رمزًا للهوية الأمازيغية التي تسعى الأجيال الشابة إلى الحفاظ عليها، حيث ترتبط هذه الآلة في المخيال الشعبي بجملة من المعتقدات الميثولوجية الضاربة أطنابها في عمق التاريخ، حيث تحيل إلى حصول الفرج بعد الضيق، والغنى بعد الفقر، فإن طحنت قمحاً أو شعيراً، أو ما فيه نفع دلَّ ذلك على اليسر والخير، وإن دارت بصوتها حفَّ الرزق المكان وشُفي الأهل من الأمراض، وإن دارت بلا شعير فذاك دليل تعب لأهل البيت، فيما يمنع على الفتاة الراغبة في الزواج أن تمر بين طرفي الرحى وهي مفتوحة. أما إذا أقدم الأطفال على ليِّ عصاها الصغيرة فذلك دلالة على قرب أجل صاحبتها، في حين يدل انكسارها على قرب وفاة صاحبها. ومن المعتقدات الأخرى المنسوجة عن الرحى أن من اشتراها تزوج إن كان عازباً، أو زوّج ابنه أو ابنته قريبا، أو سافر إن كان من أهل السفر. أما بالنسبة للعريس حين يطحن بمعية عروسه قبل الزفاف فذلك أمل في تيسير العسير، وتمني الغيث والفرج واستمرار الحياة بالعطاء والذرية المعطاء، وهي أمور اعتقادية سارية ومتداولة بين الناس على مر الأزمان.
“أزرك” ليس مجرد حجرين يدوران حول بعضهما، بل هو قصة أجيال، وحكاية كفاح، ورمز لتاريخ وثقافة منطقة سوس. من خلال الحفاظ على هذه الأداة التقليدية، نحفظ جزءًا من تراثنا الذي يروي لنا ولأبنائنا قصصًا عن البساطة والعمل الدؤوب في حياة أسلافنا.